Wednesday, 31 October 2012

أحكام غير المسلمين في نظام الوقف الإسلامي 1

أحكام غير المسلمين في نظام الوقف الإسلامي

الدكتور آدم نوح معابدة القضاة / كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة اليرموك



ملخص
يتناول هذا البحث المسائل الفقهية التي تتعلق بغير المسلمين في باب الوقف، حيث قام الباحث بجمع أقوال الفقهاء في هذه المسائل من المصادر الفقهية المعتمدة، ثم قام بدراستها وفق ما تقتضيه منهجية الدراسات الفقهية المقارنة.
انتهى الباحث إلى أن نظام الوقف الإسلامي عالج وبوضوح الأحكام التي تتعلق بغير المسلمين من ذميين ومستأمنين ومرتدين وحربيين، سواءٌ كانوا واقفين أو موقوفاً عليهم، حيث يلاحظ اتفاق الفقهاء على إفساح المجال أمام المسلمين ليشملوا بأوقافهم غير المسلمين من أهل الذمة، كما يلاحظ أيضاً اتفاقهم على تصحيح الأوقاف الصادرة من أهل الذمة في الدولة الإسلامية، شريطة ألا تتعارض هذه الأوقاف مع النظام الإسلامي العام.
يرى الباحث أن إحياء ثقافة الوقف وتعميمها بين المسلمين وغير المسلمين محلياً ودولياً يسهم في تعزيز روابط التعاون الإنساني المشترك، شريطة انضباطها بالأحكام الشرعية التي تحفظ لهذا التعاون توازنه واستمراره.
مقدمة البحث
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الإسلام دين الله الذي ارتضى لعباده، فيه الهدى والرحمة للناس جميعاً، وفي مبادئه وقواعده وأحكامه التشريعية ما يحفظ المصالح الحقيقية للإنسان أياً كان موقعه في هذه الدنيا، بل أياً كان موقفه من هذا الدين من حيث الأصل، وهذه ميزة لا تنحصر في جانب من جوانبه أو باب من أبوابه، بل هي صفة لازمة وسمة بارزة يدركها كل باحث منصف، ومطلع بصير.
وهذا الجانب يحتاج -خاصةً في أيامنا هذه- إلى أن يُبرز كما هو، من غير تحريف ولا تزييف، ومن غير جحود أو إنكار، فنحن نعيش اليوم في عالم أصبحت فيه القيم الإنسانية الخيرة محل مراجعة وتشكيك، بعد أن صارت هذه القيم مطية من قبل أصحاب القوة والنفوذ لتحقيق أهداف مادية بعيدة كل البعد عن الأخلاق النبيلة.
وفي هذا الإطار تأتي هذه الدراسة لأحكام غير المسلمين في نظام الوقف الإسلامي، فنظام الوقف يعد معلماً بارزاً من معالم التشريع الإسلامي الخالد، ودليلاً قائماً على حيويته وسعته، يُثبت -شأنه شأن أنظمة الإسلام الأخرى- اهتمام هذا الدين بالمصالح المشتركة للبشر، وسعيه إلى تحقيق هذه المصالح عن طريق أحكام عملية واقعية، يسعد بها الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم بل وأديانهم.
وقد جاءت الدراسة في تمهيد، وثلاثة مباحث تنتظم المسائل الفقهية محل البحث، وهي:
المبحث الأول: حكم الوقف من غير المسلم.
المبحث الثاني: حكم الوقف على غير المسلم.
المبحث الثالث: مسائل متفرقة تتعلق بغير المسلمين في الوقف.
أما منهج البحث فيقوم على تتبع أقوال الفقهاء من المذاهب الفقهية الأربعة في كل مسألة من المسائل، مع نقل نصوصهم في ذلك عند الحاجة، ثم تحليلها تحليلاً فقهياً بحسب ما انتهى إليه فهم الباحث، والموازنة بينها ثم الترجيح في المسائل التي بان لي فيها ترجيح أحد الأقوال على غيره.
وأسأل الله تعالى أن يجعل عملي هذا مقبولاً عنده، ومرضياً عند عباده، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين. فهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
تمهيد
قبل الخوض في مباحث هذه الدراسة ومسائلها، لا بد لي من بيان بعض المصطلحات الأساسية التي تقوم عليها هذه الدراسة، ولا بد لي أيضاً من الحديث الموجز عن مشروعية الوقف عموماً، وعن أهمية البحث في أحكام غير المسلمين في نظام الوقف غير الإسلامي.
أولاً: تعريف الوقف لغةً واصطلاحاً:
الوقف لغة: يطلق على الحبس والمنع، يقال: وقَفَت الدابة تقف وقفاً ووقوفاً، بمعنى: سكنت. والفعل الثلاثي وقف يتعدى ولا يتعدى، ووقفت الدار وقفاً: حبستها في سبيل الله. وشيء موقوف ووَقْف أيضاً تسمية بالمصدر، والجمع أوقاف مثل ثوب وأثواب. ووقفت الرجل عن الشيء وقفاً: منعته عنه، وأوقفت الدار والدابة بالألف لغة تميم وإن عابها بعض أهل اللغة([1]).
أما الوقف اصطلاحاً: فقد اختلف الفقهاء في تعريفه تبعاً لاختلافهم في بعض مسائله كمسألة لزوم الوقف، ومسألة ملك العين الموقوفة، وشرط الموقوف عليه، ومن التعريفات التي تكشف عن هذا ما يلي:
عرفه الحنفية أخذاً من كلام الإمام أبي حنيفة بأنه: "حبس العين على حكم ملك الواقف والتصدق بالمنفعة ولو في الجملة"([2])، وأخذاً من كلام الصاحبين بأنه: "حبس العين على حكم ملك الله تعالى وصرف منفعتها على من أحب"([3]).
وعرفه المالكية بأنه: "إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً"([4]).
وعرفه الشافعية بأنه: "حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح موجود"([5]).
وعرفه الحنابلة بأنه: "تحبيس مالك مطلق التصرف ماله المنتفع به مع بقاء عينه، بقطع التصرف في رقبته، وصرف ريعه إلى جهة بر تقرباً إلى الله تعالى"([6]). وجاء عندهم أيضاً: "حد كثيرٌ من الأصحاب الوقف بأنه: تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة"([7]).
والواقع أن مجموع هذه التعريفات لا تخرج عن المفهوم اللغوي، الذي يفيد احتباس العين ومنع التصرف فيه من قبل الواقف ومن قبل الموقوف عليه، مع إعطاء الحق للموقوف عليه في الاستفادة من منفعتها وثمرتها، أما الاختلافات التي نراها في هذه التعريفات، فإنما مردها إلى التكييف الفقهي الذي اعتمده الفقهاء للوقف، وما يتبعه من بيان الشروط والأركان فيه([8]).
ثانياً: بيان المقصود بغير المسلمين في هذا البحث:
من خلال تتبعي للمسائل التي ذكرها الفقهاء في باب الوقف، وما ذكر فيها من أحكام غير المسلمين، وجدتهم يتحدثون عن أصناف متعددة منهم، فهناك الذمي، والمستأمن، والحربي، والمرتد، ولكل صنف من هؤلاء أحكام خاصة به إن كان واقفاً أو موقوفاً عليه.
ثالثاً: مشروعية الوقف عموماً:
ثبتت مشروعية الوقف عموماً عند جمهور أهل العلم من المسلمين بالكتاب والسنة، وفي هذا نصوص عديدة، وآثار ونقولات كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1.    قوله تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج: 77].
2.    قوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92].
3.    قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ) [البقرة: 267].
4.    قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له)([9]).
5.    ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر أرضاً بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. قال: فتصدق بها عمر، أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يورث ولا يوهب. قال: فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم غير متمول"([10]).
6.    ما رواه أبو عبد الرحمن السلمي قال: لما حُصر عثمان أشرف عليهم فوق داره ثم قال: أذكركم بالله! هل تعلمون أن حراء حين أنتفض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أثبت حراء فليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد. قالوا: نعم. قال أذكركم بالله! هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جيش العسرة: من ينفق نفقة متقبلة؟ والناس مجهدون معسرون، فجهزت ذلك الجيش. قالوا: نعم. ثم قال: أذكركم بالله! هل تعلمون أن بئر رومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بثمن، فابتعتها فجعلتها للغني والفقير وابن السبيل. قالوا: اللهم نعم. وأشياء عددها..."([11]).
7.    ما روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: "لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف"([12]).
لهذه الأدلة وغيرها ذهب جمهور العلماء سلفاً وخلفاً إلى القول بمشروعية الوقف، حتى قال الإمام أحمد: "من يرد الوقف إنما يرد السنة التي أجازها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه"([13]). وقال الإمام الشوكاني: "اعلم أن ثبوت الوقف في هذه الشريعة وثبوت كونه قربة أظهر من شمس النهار"([14]).
رابعاً: أهمية البحث في أحكام غير المسلمين في الوقف:
شهدت أعمال الوقف ومشاريعه ومؤسساته في العالم العربي والإسلامي توسعاً كبيراً في السنوات القليلة الماضية، وجرت عدة محاولات للانتقال بالوقف من الإطار المحلي إلى الإطار الدولي والعالمي، فظهرت مؤسسات للوقف أنشأتها الجاليات الإسلامية في الدول غير الإسلامية([15])، ونشأت مشاريع وقفية في بلاد المسلمين تعنى بمصارف عالمية لا تقتصر على المسلمين أو المقيمين في الدول الإسلامية([16])، ومثل هذه المشاريع تحتاج إلى ضبط من الناحية الشرعية، لتكون متوافقة مع الاجتهادات الفقهية المعتبرة في هذا الباب، فكثر التساؤل عن موقع غير المسلمين في الوقف، ومدى إمكانية شمولهم بهذه المشاريع الوقفية وإشراكهم فيها.
إضافة إلى هذا الأمـر فإن الساحة الفكرية اليوم تشهد جدلاً واسعاً حول مكانة غير المسلمين في الدولة الإسلامية، وحول الحريات الدينية والمدنية التي يتمتعون بها، وهو جدل يُظهر في كثير من الأحيان الجهل بالأحكام الشرعية الصحيحة في هذا الباب، وهذا الجهل سببٌ لإفراط الجاهلين وتفريط الغافلين، فكان من الضروري إظهار الأحكام الشرعية المتعلقة بغير المسلمين وتجليتها في سائر المجالات، ومن ضمنها الوقف. وذلك أن "ثقافة الوقف في الإسلام ثقافة واسعة ومستوعبة، منبئة بحق عن قيم الإسلام الرفيعة في الرعاية والمواساة والرحمة والتسامح، ومن صور اتساع الوقف عند المسلمين شموله لغير المسلمين واتساع أحكامه وأطره التشريعية للوقف عليهم بل وقبوله لأوقافهم ومشاركاتهم في فعل الخير.
ولعلنا اليوم أحوج من أي وقت مضى إلى إبراز دور الوقف في تعزيز وتوطيد الروابط الاجتماعية والعلمية والمعرفية بين المسلمين وغيرهم ممن يعيشون داخل الدولة الإسلامية أو في نطاق وكنف الجوار امتداداً إلى المجتمع الدولي بأسره..."([17]).
المبحث الأول
حكم الوقف من غير المسلم
في هذا المبحث استعراض للأحكام الفقهية المتعلقة بالوقف الصادر من غير المسلم من حيث أصل الوقف ومن حيث كيفيته، ولاستبانة هذا الأمر جعلت البحث يدور حول المطلبين التاليين.
المطلب الأول: حكم وقف غير المسلم من حيث الأصل:
معلوم أن الواقف يعتبر مقوماً أساسياً من مقومات الوقف، إذ لا يتصور شرعاً وجود وقفٍ من غير واقف، فهو من جملة التصرفات الانفرادية التي تبنى على إرادة الإنسان المتصف بالأهلية الكاملة والولاية الصحيحة على محل التصرف، فهل يتصف غير المسلم -ذمياً كان أو غير ذمي- بهذين الوصفين بحيث يُحكم بصحة وقفه؟ أو أن للوقف خصوصية تقتضي خلاف ذلك؟ هذا ما سأناقشه في مسائل هذا المطلب.
المسألة الأولى: حكم وقف الذمي:
الذمي في اصطلاح الفقهاء هو: المعاهد، أي من أُعطي العهد من الإمام -أو ممن ينوب عنه- بالأمن على نفسه وماله نظير التزامه الجزية ونفوذ أحكام الإسلام([18]). وقد جاء في حكم وقفه عند فقهاء المذاهب الأربعـة الحنفيـة([19])والمالكيـة([20]) والشافعية([21]) والحنابلة([22]) نصوص عديدة أكثر من أن تحصى، تدل جميعها على صحة الوقف من الذمي من حيث الأصل، وذلك لأمرين:
1.      لاشتراكه مع المسلم في أهلية التبرع التي هي محل النظر عند البحث في شروط الواقف([23])، وأهلية التبرع هذه تتحقق بثلاثة أمور هي: العقل والبلوغ وعدم الحجر.
2.      القاعدة العامة أن أهل الذمة في المعاملات والتصرفات المالية تجري عليهم أحكام الإسلام، إلا ما استثني من ذلك كالتعامل بالخمر والخنزير عند بعض الفقهاء، وذلك لأن الذمي ملتزم بموجب عقد الذمة بأحكام الإسلام فيما يرجع إلى هذا الباب من المسائل([24]).
وهذه القاعدة وما يعود إليها تُلاحَظ من كلام الفقهاء إجمالاً في أبواب المعاملات من الفقه الإسلامي، بل هو ما نص عليه بعضهم صراحة، فقد قال الإمام الجصاص الحنفي: "وقال أصحابنا: أهل الذمة محمولون في البيوع والمواريث وسائر العقود على أحكام الإسلام، كالمسلمين إلا في بيع الخمر والخنزير..."([25]). وقال الإمام السرخسي الحنفي: "وإذا دفع المسلم إلى النصراني مالاً مضاربة بالنصف فهو جائز، لأن المضاربة من المعاملات، وأهل الذمة في ذلك كالمسلمين"([26]). وقال الإمام القرافي المالكي: "... وإذا ظهر هذا الجواب ظهر أن الحق الأبلج القضاء على عقودهم (أي أهل الذمة) بالصحة حتى يعلم فسادها"([27]).
ومما يؤيد هذا المعنى من جهة الرواية ما رواه الواقدي في مغازيه من أن أول صدقة موقوفة كانت في الإسلام أراضي مخيريق، التي أوصى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوقفها النبي صلى الله عليه وسلم([28])، ومخيريق([29]) هذا يهودي قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحد، وكان قد أوصى إن أصيب فأمواله إلى محمد صلى الله عليه وسلم يضعها حيث أراه الله([30]).
والذي يظهر من كلام الفقهاء في هذه المسألة أن وقف أهل الذمة من حيث آثاره لا يختلف عن وقف المسلمين، إلا ما نقله المالكية([31]) عن القاضي عياض من قوله بعدم لزوم وقف أهل الذمة وصحة رجوعهم فيه، مع أن المعتمد في مذهبهم([32]) لزوم الوقف من حيث الأصل، ومثلهم في هذا الشافعية([33]) والحنابلة([34]) وصاحبا أبي حنيفة([35]).
أما مستنده في ذلك فهو القول بأن الوقف قربة وأن القربة لا تصح منهم، وعقودهم فيها غير لازمة([36])، وتخريجه هذا للوقف لا يتوافق مع تخريج المذاهب الأخرى له، فضلاً عن أنه لا يتوافق مع تخريج غيره من أهل المذهب.
فقد جاء عند الحنفية: "وأما الوقف فليس بعبادة وضعاً بدليل صحته من الكافر"([37]). وجاء عند المالكية أنفسهم: "الوقف يصح وإن لم تظهر فيه قربة; لأن الوقف من باب العطايات والهبات لا من باب الصدقات ولهذا يصح الوقف على الغني والفقير..."([38]). وجاء عند الشافعية: "وإنما صح وقفه ووصيته (أي غير المسلم) وصدقته من حيث إنها عقود مالية لا قربة"([39]). وجاء عند الحنابلة: "الوقف تبرع يمنع البيع والهبة, فلزم بمجرد اللفظ كالعتق"([40]).
وهذه النصوص دلت على أن جمهور الفقهاء يرون أن الوقف تصرف من جملة التصرفات المالية، وليس عبادةً محضة، وعليه فلا وجه للتفريق بين آثاره من المسلم ومن غير المسلم.
المسألة الثانية: حكم وقف المرتد:
المرتد في اصطلاح الفقهاء: "هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر, قال الله تعالى: (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة: 217] "([41]).
والذي يظهر هنا أن الفقهاء من المذاهب الأربعة([42]متفقون على الحكم بعدم صحة وقف المرتد إن مات أو قتل على ردته، وما ذهبوا إليه هنا مبني على أن المعتمد في هذه المذاهب أن ملك المرتد إن مات أو قتل يزول ويصير فيئاً([43]), فالأمر متعلق بولايته على ماله لا بأهليته للتصرف من حيث الأصل كما هو ظاهر.
غير أن الفقهاء اختلفوا في حكم الوقف إن عاد المرتد للإسلام، ولهم في ذلك قولان:
الأول: ما صرح به الحنفية([44]) ويؤخذ من عموم القول المعتمد عند الحنابلة([45]) في تصرفات المرتد أن وقفه يصير صحيحاً نافذاً، لأن وقفه حال ردته كان موقوفاً على رجوعه إلى الإسلام، وقد عاد إلى الإسلام فيحكم بنفاذه.
الثاني: ما صرح به الشافعية([46]) ويؤخذ من عموم قول المالكية([47]) وبعض الحنابلة([48]في تصرفات المرتد، أن وقف المرتد غير صحيح ابتداءً، ولو عاد للإسلام فلن يقبل منه.
ومبنى الخلاف بين القولين أن أصحاب القول الأول نظروا إلى محل التصرف، فبما أن ملكيته موقوفة فكذا كل تصرف يقع عليه، وأما أصحاب الفريق الثاني كالشافعية فنظروا إلى طبيعة التصرف، فبما أنه لا يقبل التعليق ابتداءً فلا يصح تعليقه على الرجوع إلى الإسلام، وهذا برأيي هو الأرجح فإن أصحاب القول الأول([49]) يقولون بعدم صحة التعليق في الوقف ابتداءً فكيف يقولون بصحته هنا؟
المسألة الثالثة: وقف المستأمن:
المستأمَن: هو الحربي المقيم إقامة مؤقتة في ديار الإسلام, فيعود حربياً لأصله بانتهاء مدة إقامته المقررة له في بلادنا, لكن يبلغ مأمنه([50]). وحكم وقفه حال إقامته في بلاد المسلمين لم ينص عليه صراحةً - فيما اطلعت- إلا الحنفية فقد جاء عندهم: "وأما الحربي المستأمن فيجوز له من الوقف ما يجوز للذمي، ثم لا يبطل برجوعه إلى داره، ولا بموته عندنا، ولا بإبطاله إياه قبل عوده إلى داره، ولا برجوعه إلينا ثانياً بأمان"([51]).
وأما غيرهم من أهل المذاهب فإن الشافعية([52]) يجيزون وقف الكافر عموماً، ويدخل في هذا المستأمن([53]) وإن لم يصرحوا به، وأما المالكية والحنابلة فالذي يظهر من عموم أقوالهم صحة وقف المستأمن، وذلك لأنهم يصححون من حيث الأصل المعاملات المالية التي تقع من المستأمن في دار الإسلام([54]).
المطلب الثاني: حكم وقف غير المسلم باعتبار الجهة الموقوف عليها:
مما لاشك فيه أن الحكم بصحة وقف من الأوقاف مرتبط بموافقته للشرع من جميع الوجوه، فأهلية الواقف، وولايته على محل الوقف لا تعني ضرورةً صحة وقفه، بل لابد من النظر إلى اعتبارات أخرى، من ضمنها الجهة التي صرف إليها الوقف، وهذا الأمر يشمل المسلم وغير المسلم، ولذا فإن فقهاءنا -جزاهم الله خيراً- بحثوا طويلاً في الجهات التي يجوز الوقف عليها عموماً والتي لا يجوز، ولست هنا بصدد ذكر أقوالهم، أو الوقوف عليها؛ فمقصود البحث بيان الأحكام التي اختص بها غير المسلمين في نظام الوقف، ومن ذلك الجهات التي يصح وقفهم عليها، كما يظهر من خلال المسائل التالية:
المسألة الأولى: حكم وقف غير المسلم على ما يعتبر معصية في ديننا ودينه:
وذلك كالوقف على قُطّاع الطرق والفَسَقة، وغير ذلك مما لا يُقَرّ في ديننا ولا في دينه من المعاصي والآثام. وهذا النوع من الوقف لا يصح باتفاق الفقهاء([55])؛ وذلك لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان الذي نهينا عنه صراحة، وأهل الذمة في ذلك كالمسلمين، لا يقرون عليه.
المسألة الثانية: حكم وقف غير المسلم على ما يعتبر قربةً في ديننا ودينه:
وذلك كالوقف على الفقراء والمساكين، والوقف على المارة وعابري السبيل، والوقف على الذرية والأقرباء والجيران، والوقف على بيت المقدس.
والذي يظهر من كلام الفقهاء([56]) في هذه المسألة اتفاقهم على صحة الوقف من الذمي على كل جهات البر المتفق عليها بين الإسلام وملته، وتوجيه هذا كما يظهر من كلامهم أن الوقف تصرف مالي شرع لأجل البر ابتداءً، ومتى ظهر هذا في الجهة الموقوف عليها فلا يمنع، سواء كان الواقف مسلماً أو غير مسلم، مع مراعاة الشروط الأخرى وانتفاء الموانع.
المسألة الثالثة: وقف غير المسلم على ما يعتبر قربة في دينه وهو معصية في ديننا:
وذلك كالوقف على الكنائس، والأديرة، والبيوت التي يعبد فيها غير الله تعالى، أو الوقف على ما فيها من المعبودات الباطلة وخدمها، وعلى كل ما فيه إظهار للعقائد المنافية لعقيدة المسلمين.
والذي يظهر من كلام الفقهاء هنا: أن الأقوال المعتمدة في المذاهب الفقهية الأربعة([57]) ذهبت إلى عدم صحة الوقف من الذمي على هذه الأمور، ومحل هذا كما صرح به بعض الفقهاء([58]) إذا وقع الوقف منهم بعد الإسلام، ورفعوا أمرهم إلينا. وتعليل ما ذهبوا إليه من عدم صحة الوقف هنا([59]) هو:
1.      إن الوقف وإن كان تصرفاً مالياً في أصله إلا أنه يشترط فيه أن ألا يكون على معصية؛ ليتحقق المقصد الشرعي من الوقف وهو التقرب إلى الله تعالى، والوقف على مثل هذا لا يحصل به المقصود.
2.      إننا قد نهينا عن الإعانة على المعاصي، ولا معصية أكبر من الشرك وعبادة ما دون الله تعالى, وتصحيح وقفهم في مثل هذا إعانة لهم عليه.
3.      إن حكم المسلمين بصحة هذا الوقف يناقض مبدأ من مبادئ التشريع الإسلامي الثابتة، وهو أن الحكم لله تعالى، وقد قضى رب العزة ببطلان عبادتهم ومعتقداتهم، ولذا نحكم ببطلان ما بني عليها من تصرفات.
هذا ما عليه جمهور الفقهاء، لكن بعضهم كالقاضي عياض من المالكية([60])، وصاحب الواضح من الحنابلة([61]أجازا وقف أهل الذمة على الكنائس وبيوت العبادة عندهم، واحتُج لهما([62]) بأن شرط الوقف أن يكون في قربةً بحسب اعتقاد الواقف، وإن خالف في ذلك اعتقاد المسلمين. غير أن هذا لا يستقيم لسببين:
1.      إن أهل الذمة نزلوا في عقد ذمتهم على أحكام المسلمين فيما يتعلق بالمعاملات، ومن أحكام المسلمين أنه لا يجوز عندهم الوقف على ما يتنافى مع العقيدة الإسلامية، وهذا - كما يقال اليوم- من أحكام النظام العام في الدولة، لارتباطه بعقيدة الدولة ووظيفتها، وكل ما يتنافى معه لا يصح بصرف النظر عن اعتقاد صاحبه.
2.      إن نظام الوقف هذا نظام إسلامي ابتداءً، فقد نقل عن الإمام الشافعي([63]) أن أهل الجاهلية لم يكونوا يعرفون الوقف، ولذا فهو حقيقة شرعية يرجع إلى شرعنا في تحقيق شروطها وأحكامها، ولا يتجاوز بها إلى غير ذلك.
المسألة الرابعة: وقف غير المسلم على ما يعتبر قربة في ديننا ولا يعتبر قربة في دينه:
وذلك كالوقف على المساجد وعلى الحجاج والمعتمرين، وغيرها من سبل العبادة والطاعة المشروعة في ديننا دون دينهم، والذي يظهر لي أن الفقهاء اختلفوا في حكم هذا النوع من الوقف إلى قولين:
الأول: وإليه ذهب الحنفية([64]) والمالكية([65]) وبعض الشافعية([66]) من أن وقفه لا يصح. وعلل بعضهم قوله هذا بأن أموال غير المسلمين أبعد ما تكون عن الكسب الطيب الحلال، وما كان كذلك فلا ينبغي صرفه إلى قربات المسلمين([67])، ويمكن أن يحتج لهم أيضاً بأن من شروط الوقف عند بعض الفقهاء أن يكون في قربة ولا يمكن أن تتحقق القربة من غير المسلم لأنه ليس من أهل النية.
الثاني: وذهب إليه الشافعية([68]) والحنابلة([69]) من أن وقفه صحيح؛ وحجتهم في ذلك أن الوقف من الذمي صحيح ابتداءً، لصحة عبارته وولايته على ماله، وصرف الوقف إلى مصالح المسلمين الخاصة من مساجد وغيرها يتفق مع أحكام الشرع ظاهراً.
والذي أميل إلى ترجيحه هو القول الثاني، لأن ما احتج به الفريق الأول من عدم طيب كسب غير المسلم غير متحقق، فقد اتفق الفقهاء على صحة التعامل المالي معه وعلى قبول هبته.
ثم إنه لا وجه للتفريق بين القربة الصحيحة في اعتقادنا واعتقاده -وهي التي اتفق الفقهاء على صحة الوقف عليها- والقربة التي هي صحيحة في اعتقادنا فقط، لأن اعتقادهم ليس حجة في ديننا عموماً، وليس حجة في الوقف أيضاً، ولذا ذهب جمهور الفقهاء([70]) إلى عدم صحة وقفهم على ما كان قربة في دينهم فقط، وفي هذا دليل على عدم اعتبار هذا الاعتقاد.
وأما ما يمكن أن يقال من أن: غير المسلم ليس أهلاً للنية، ولا تقبل منه القرب الدينية المشروعة في ديننا. فهذا صحيح، لكن الوقف كما يستفاد من أقوال الفقهاء ليس عبادة محضة، بل هو تصرف مالي يشترط فيه ألا يكون في معصية، وهو متحقق هنا.
على أن الباحث يرى أنه لا بد من تقييد هذا القول بقيود، تستفاد من عموم الأدلة الشرعية، ولا تأباها قواعد المذاهب التي أخذت بهذا القول، وهي:
1.      أن تسلم هذه الأوقاف إلى المسلمين للنظر في شؤونها وإدارتها وتوزيعها على مستحقيها، كي لا يكون لأهل الذمة مدخل في التحكم بأمر يخص المسلمين دون غيرهم، وهو أمر العبادة. قال الله تعالى: (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [النساء:141].
2.      ألا يظهر لأهل الذمة ذكرٌ أو شعارٌ  في الأماكن التي وقفوا عليها، كي لا يكون هذا سبباً للتلبيس على المسلمين في أمر دينهم. قال الله تعالى: (وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً)[الجن: 18].

0 comments: