المبحث الثاني
حكم الوقف على غير المسلم
يعتبر الموقوف عليه مقوماً أساسياً من مقومات الوقف في نظام الوقف الإسلامي، ويشترط الفقهاء إجمالاً في الموقوف عليه شروطاً عديدة من أهمها-على اختلاف- بينهم:
- أن يكون الموقوف عليه جهةً من جهات البر.
- أن يكون الموقوف عليه معلوماً.
- أن يكون الموقوف عليه ممن يصح تملكه.
- أن يكون الموقوف عليه جهةً لا تنقطع.
فهل تنطبق هذه الشروط على غير المسلمين إذا كان الوقف عليهم أو على صنف من أصنافهم؟ وهل يختلف الحكم إن كان الوقف من غير المسلم أو من المسلم؟ هذا ما سأناقشه في المطلبين التاليين إن شاء الله تعالى.
المطلب الأول: حكم وقف المسلم على غير المسلم:
يبحث الفقهاء مسائل عديدة مما يدخل تحت هذا العنوان، وفيما يلي أهم هذه المسائل وما انتهى إليه اجتهادهم في كل منها:
المسألة الأولى: حكم وقف المسلم على أهل الذمة:
الذمي في اصطلاح الفقهاء كما سبق تعريفه هو: المعاهد، أي من أعطي العهد من الإمام -أو ممن ينوب عنه- بالأمن على نفسه وماله نظير التزامه الجزية ونفوذ أحكام الإسلام([71]).
والذي يظهر من كلام أهل العلم هنا، أن الأقوال المعتمدة في المذاهب الأربعة الحنفية([72]) المالكية([73])والشافعية([74]) والحنابلة([75]) اتفقت على صحة وقف المسلم على الذمي من حيث الأصل، لا يعارضهم في ذلك إلا قولٌ في مذهب الشافعية([76]).
أما مستند الأقوال المعتمدة([77]) فهو:
1. إن الشروط العامة لصحة الوقف تنطبق على أهل الذمة من حيث الأصل، فهم أهل للتملك، وملكهم محترم، فلزم الحكم بصحة الوقف عليهم.
2. إن الصدقة على أهل الذمة وصلتهم وجه من وجوه البر المقررة في شرعنا، ولا يمنع من ذلك عدهم من جملة الكفار المنكرين، دل على ذلك أدلة كثيرة منها:
أ- قول الله تعالى: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8].
ب- قوله سبحانه وتعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)[الإنسان: 8]، ووجه الدلالة هنا أن الأسير لا يكون إلا كافراً([78])، ومع ذلك عد التصدق عليه من البر المستوجب للمدح من الله تعالى.
ج- ما روي أن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم وقفت على أخ لها يهودي([79]).
د- ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في كل كبد رطبة أجر"([80]). قال الحافظ ابن حجر: "قوله: في كل كبد رطبة أجر. أي: كل كبد حية، والمراد رطوبة الحياة أو لأن الرطوبة لازمة للحياة فهو كناية ومعنى الظرفية هنا أن يقدر محذوف، أي: الأجر ثابت في إرواء كل كبد حية... واستدل به على جواز صدقة التطوع للمشركين"([81]).
أما ما قاله بعض الشافعية([82]) من عدم صحة الوقف على أهل الذمة نظراً لعدم ظهور القربة في مثل هذا الوقف فمردود بصريح الأدلة التي ساقها أصحاب الفريق الأول.
هذا ما قاله الفقهاء في حكم الوقف من حيث الأصل، غير أن من الفقهاء من أضاف قيوداً الظاهر منها أنها سيقت لمراعاة شروط الوقـف الأخرى، فمن ذلك:
1. ذهب الشافعية([83]) وبعض المالكية([84]) إلى عدم صحة وقف المصحف وما شابهه على الذمي، وفي هذا مراعاة لأحد شروط الموقوف عليه التي وهو كونه ممن يصح تملكه.
2. ذهب الشافعية([85]) وهذا ما يؤخذ من كلام الحنفية([86]) إلى أن الوقف على بعض أهل الذمة لا يصح إن ظهر في تعيينهم قصد معصية، ومثلوا لهذا برهبان الكنائس وخدم الأديرة.
3. يرى بعض المالكية([87]) كراهة الوقف على أهل الذمة ما لم يكونوا أقرباء للواقف أو فقراء؛ تأكيداً لتحقق معنى القربة في الموقوف عليه.
وهذه قيود صحيحة لا بد من مراعاتها والله أعلم.
المسألة الثانية: حكم وقف المسلم على الحربي والمرتد:
الحربي: هو غير المسلم الذي لم يدخل في عقد الذمة, ولا يتمتع بأمان المسلمين ولا عهدهم([88]). أما المرتد فهو كما سبق: الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر([89]).
أما حكم الوقف على الحربي فالذي يظهر للباحث اتفاق الأقوال المعتمدة في المذاهب الأربعة([90]) على عدم صحة الوقف على الحربي مطلقاً، وذلك لأسباب عديدة([91]) أهمها ما يأتي:
1. إن من شروط صحة الوقف ألا يكون في معصية، والوقف على الحربي ليس كذلك، فقد نهى الشارع عن برهم والإحسان إليهم، بل نحن مأمورون بالتضييق عليهم.
2. إن الوقف على الحربي فيه إعانة له على كفره وعناده ومحاربته للإسلام ومنابذته للمسلمين، وما كان كذلك فلا يصح من المسلم فعله في الوقف ولا في غيره.
3. الوقف صدقة جارية، ولذا يشترط في الموقوف عليه أن يكون على جهة لا تنقطع، ومثل هذا غير متحقق حكماً في الحربي.
4. من شروط الموقوف عليه أن يكون ممن يصـح تملكه والحربي ملكه إلى زوال في حكم الشرع، ولذا فلا يصح الوقف عليه.
هذا هو القول المعتمد في المذاهب الفقهية الأربعة غير أن بعض الفقهاء من الشافعية([92]) والحنابلة([93]) ذهبوا إلى جواز الوقف على الحربي المعين، أي أن يقف الواقف على شخص يقصده لذاته مع أنه حربي، وقيده بعضهم بشرط أن لا يكون هذا الحربي مقاتلاً, ولا مخرجاً للمسلمين من ديارهم, ولا مظاهراً للأعداء على الإخراج.
ومستند كلام هذا الفريق([94]) أنه داخل في عموم قوله تعالى: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الممتحنة: 7-8].
وهذا الاستدلال في الحقيقة موضع نظر، فقد جاء في سبب نزول هذه الآية عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: "نعم صلي أمك" قال ابن عيينة فأنزل الله تعالى فيها (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ...) الآية([95]). فالذي يظهر من سبب نزول هذه الآية أنها في صلة المحارب إذا كان مستأمناً، والمستأمن تجري عليه أحكام أهل الذمة كما هو معلوم.
وأما الوقف على المرتد فقد صرح الشافعية([96]) والحنابلة([97]) بعدم صحة الوقف عليه معيناً كان أو غير معين، ولم أجد للحنفية والمالكية نصاً في المسألة، لكن الذي يظهر من كلامهم([98]) عدم صحة ذلك، لأن العلة التي من أجلها منع الوقف في الحربي متحققة ولا شك في المرتد، فهو مهدر الدم، زائل الملك، وليس جهةً يتقرب إلى الله تعالى بصلتها أو الوقف عليها.
المسألة الثالثة: حكم وقف المسلم على المستأمن:
المقصود بالمستأمن هنا: "هو الحربي المقيم إقامة مؤقتة في ديار الإسلام, فيعود حربياً لأصله بانتهاء مدة إقامته المقررة له في بلاد المسلمين, لكن يبلغ مأمنه"([99]).
وقد اختلف الفقهاء في صحة وقفه على قولين:
الأول: ذهب إليه الشافعية في المعتمد([100])، ويؤخذ من كلام الحنفية على الأظهر([101]) والحنابلة([102])، أن الوقف على المستأمن صحيح، ويصرف إليه ما دام في بلاد المسلمين، فإذا رجع إلى بلاده صرف إلى من بعده؛ وذلك إلحاقاً له بالذمي المتفق على صحة الوقف عليه.
والقول بالجواز نُقل عن المالكية([103]) أيضاً، لكنهم قالوا بأن الوقف على المسلم أولى.
الثاني: ذهب إليه بعض الشافعية([104]) من أن الوقف على المستأمن لا يصح؛ إلحاقاً له بالحربي الذي لا يصح الوقف عليه.
والراجح فيما أرى هو الأول، لأن المستأمن أشبه بالذمي منه بالحربي، وذلك من حيث حرمة ماله ودمه وصحة تصرفاته ومعاملاته، والله أعلم.
المطلب الثاني: حكم وقف غير المسلم على غير المسلم:
هذا المطلب يدخل فيه من ناحية نظرية عدة مسائل هي:
1. حكم وقف الذمي على الذمي (ويدخل فيه المستأمن كما ظهر في المسألة السابقة).
2. حكم وقف الذمي على المرتد.
3. حكم وقف الذمي على الحربي.
4. حكم وقف المرتد على الذمي (ويدخل فيه المستأمن كما ظهر في المسألة السابقة).
5. حكم وقف المرتد على المرتد.
6. حكم وقف المرتد على الحربي.
هذا من ناحية نظرية، غير أن الفقهاء لم يتعرضوا لجميع هذه المسائل صراحة، بل نصوا على بعضها وسكتوا عن البعض الآخر اكتفاءً منهم بما ذكروه من قواعد عامة في هذا الباب، وفيما يلي بيان حكم هذه المسائل:
المسألة الأولى: وقف الذمي على الذمي:
هذه المسألة مما نص عليه الفقهاء([105]) صراحة، حيث بينوا صحة الوقف من الذمي على الذمي، وهذا مستند إلى ما سبق([106]) من صحة وقفهم من حيث الأصل وصحة الوقف عليهم، مما يعني صحة الوقف في الجملة حال توفر الشروط والأركان الأخرى المطلوبة في هذا التصرف، وارتفاع أي مانع شرعي معتبر في هذا الباب.
المسألة الثانية: وقف الذمي على المرتد:
هذه المسألة لم أرها صراحة عند الفقهاء، غير أن الظاهر من كلامهم عدم صحة هذا الوقف، فقد صرح الشافعية([107]) والحنابلة([108]) بعدم صحة الوقف على المرتد، والظاهر أن المسلم والذمي فيه سواء، ونص الحنفية([109]) على أن من شروط صحة الوقف من الذمي أن يكون قربة عندنا وعنده، وهذا ليس قربةً عندنا قطعاً، وظاهر كلام المالكية([110]) أنهم يشترطون مثل هذا الشرط في وقف الذمي.
المسألة الثالثة: وقف الذمي على الحربي:
هذه المسألة لم أرها صراحة إلا عند الحنفية فقد جاء عندهم: "ولا يصح وقف مسلم أو ذمي على بيعة أو حربي"([111]). ومثل هذا يؤخذ من كلام المذاهب الأخرى، فقد سبق لي([112]) أن بينت أن القول المعتمد في المذاهب كلها عدم صحة الوقف على الحربي.
المسألة الرابعة: وقف المرتد على الذمي:
هذه المسألة أيضاً لم أعثر على نص صريح فيها عند الفقهاء من المذاهب الأربعة، غير أن الظاهر جريان حكم وقف المرتد الذي سبق بيانه([113]) فيها، فإن مات هذا المرتد أو قتل بطل وقفه بلا خلاف، وإن رجع إلى الإسلام ففي وقفه خلاف، فقد ذهب جمهور الحنفية والحنابلة إلى صحة وقفه لأنه كان موقوفاً على رجوعه، وذهب الشافعية والمالكية إلى عدم صحته لوقوعه باطلاً، وهو الراجح كما سبق لي أن بينت.
المسألة الخامسة: وقف المرتد على المرتد:
لا شك أن الفقهاء متفقون على بطلان هذا الوقف، فقد سبق([114]) أن بينت اتفاقهم على عدم صحة الوقف على المرتد، أضف إلى ذلك أن منهم من يرى عدم صحة وقفه ابتداءً([115]).
المسألة السادسة: وقف المرتد على الحربي:
الظاهر من كلام الفقهاء اتفاقهم على عدم صحة هذا الوقف، بناءً على أن المعتمد في المذاهب الأربعة([116]) عدم صحة الوقف على الحربي، أضف إلى ذلك أن منهم([117]) من يرى عدم صحة الوقف من المرتد من حيث الأصل.
0 comments:
Post a Comment